الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ


استوقفتني كثيراً تلك الآية من سورة التوبة:112 (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
فنجد بها الصفات التي بشر بها الله أصحابها بالمؤمنين، فأولها أن نتوب عما فعلنا من أثام ولا نعود لها مجدداً وثانيها أن نعبد الله خالصين ونقيم العبادات وثالثها أن نكون من الحامدين الذين يفيضوا بالخير من نعم الله على المحيطين فكما رزقنا نتصدق ونزكي بالمال والعلم والمساعدة ورابعها أن نكون من السائحين الباحثين عن الحقائق في كل ما حولنا والمتبعين الحق الرافضين الباطل وخامسها وسادسا هم أن نكون راكعين ساجدين وإلى أخر الآية من صفات المؤمنين. وإذ بالراكعين الساجدين كصفات المؤمنين جاءت في المرتبة الخامسة والسادسة منفصلة عن صفة العابدون. الصلاة وحركاتها على دوام اليوم تشمل الركوع والسجود، إلا أن بالرغم من ذلك جاءت العابدون في المرتبة الثانية والتي تشمل على إقامة الصلاة كعبادة أساسية، وإن كانت كل الصفات في مرتبة واحده، فهل الراكعون الساجدون تختلف عن الركوع والسجود في صلواتنا؟ دعونا نتدبر بعض الآيات.
وردت كلمات ركع، راكع، يركع وسجد، ساجد، يسجد وجميع تصريفاتهم في 68 آية بخلاف كلمة المسجد الحرام، فجاء منها ما هو من حركات الصلاة ومنها كأفعال قد يكون لها معان أخرى.
أولاً:       الركوع
·        فنجد في قوله تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران:43] أذ نديت السيدة مريم بالطاعة لربها الله سبحانه وجاء أمر السجود قبل الركوع وجاء ذكر الراكعين بصيغة الجمع، فهل طلب منها الله إقامة الصلاة؟ وإن صح، فكيف تسجد قبل الركوع كتتابع حركي للصلاة وأركانها؟ ومن هم الراكعون حيث أنها هي منفردة كالمخاطب في الآية؟ دعونا نستمر ونتدبر.
·        فنجد أيضا في قوله تعالى (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص:24] وهنا نجد سيدنا داوود أحس بارتكاب ظلم في قراره للسائل في أمر النعاج وإذا به يستغفر ربه ويركع وينيب.
·        فنجد أيضا في قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:49-47] يتوعد الله للمكذبين بيوم القيامة يوم الدين بالويل لهم فكان الأمر لهم بالركوع ولكنهم رفضوا الركوع.
فنكتفي بالثلاث آيات السابقات بالرغم من وجود الكثير كمثال لعدم التطويل ونستنتج أن المقصود بالركوع هو التصحيح والعودة للطريق الصواب الصراط المستقيم، فكان الركوع للسيدة مريم بالقنوت ودوام الطاعة كونها من المصطفين وكان ركوع سيدنا داوود بأن يعمل عقله وحياده عن التسرع في القرار وكان الركوع للمكذبين بيوم الدين بأن يعدلوا ويعودوا للصواب ويؤمنوا بالأخرة ويقيموا العبادات. وحسب الشكل المقابل يمكن الاستدلال على الركوع بأنه الرجوع للصراط المستقيم.

ونقول إن الصراط المستقيم هو محصله عملان، الأول هو العبادة الخالصة لله والقيام بكافة العبادات التي أمرنا الله بأدائها، والثاني هو المعاملات والعمل الصالح مع كافة خلق الله، فإن مالت كفة أحدهما بزيادة تطبيق أحدهما عن الأخر انحرف الطريق للصراط ووجب الركوع بالتصحيح والعودة للصواب وعدل الميزان بين العبادات والمعاملات.

ثانياً:      السجود
·        فنجد في قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] ان المطلوب ليس الصلاة لأدم والسجود كما نعمله من حركات فنحن لا علم لنا بهيئة الملائكة ولا بهيئة إبليس وكيف كان كفر إبليس وكيف سجدوا الملائكة؟
·        فنجد في قوله تعالى (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) [النحل:48] أن رؤية حركة الظل تتناسب عكسيا مع حركة الشمس، فإن كانت الشمس على اليمين ظهر الظل من على شمال الشيء وإن ظهرت الشمس من على الشمال ظهر الظل من على يمين الشيء فيها من دحر وطاعة متكررة على الدوام، فكيف تسجد الأشياء؟
·        فنجد في قوله تعالى (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف:4] فكانت رؤياه ليست فيها رؤيا إخوته وأبوه وأمه كما فسِّرت الرؤية في آية أخرى فكانت كما قصَّ على أبيه حينها ولم يكن يوسف بعلم بتفسير الرؤية، فكيف رأي يوسف الأحد عشر كوكب والشمس والقمر وهم يسجدون، كيف تسجد الكواكب والأجرام السماوية؟
فنكتفي بالثلاث آيات السابقات بالرغم من وجود الكثير كمثال لعدم التطويل ونستنتج أن المقصود بالسجود هو دوام الفعل المحمود من بدايته لنهايته بأمر الله، فكان سجود الملائكة لأدم هو دوام المساعدة، فهم الرسل للأنبياء وهم من يعرجوا بين السماوات من السماء للأرض و من الأرض للسماء للتنسيق بين المخلوقات بما يعود بالنفع على بني أدم وكان رفض إبليس السجود برفض المساعدة والتوعد بالوسوسة لبنى أدم لما فيه الضرر والبعد عن الصراط المستقيم، وكان سجود الظلال للأشياء هو حدث دائم الحدوث على دوام حركة الشمس بالسماء في قوس مسارها في كبد السماء منذ الفجر للغروب فكل يوم تشرق من الشرق و تغرب في الغرب، وكان سجود الأجرام السماوية هو دوام حركتها حول نفسها و في مدارها على دوام الساعة واليوم والشهر والموسم والسنة والعام بدقة متناهية وعودتها مجددا لحيث بدأت وتكرار دوام الحال و حين فسرت الرؤية كانت أيضاً بصيغة دوام المساعدة و الدعم من قبل إخوته وأمه وأبيه.


وتطبيقاً لهذان الفعلان فتأتي إقامة الصلاة، قياما بتلاوة ما تيسر من القرآن والركوع بطلب المغفرة ونبذ الآثام والذنوب والعودة للصراط المستقيم والسجود طاعتا فعل محمودا لله فأنت في معية الخالق بالدعاء وطلب الرحمة. وتكرار فعل الصلاة في مواعيدها على دوام اليوم هو في حد ذاته تطبيقا أشمل للسجود. وكونهما الركوع و السجود منفصلان كصفتان المؤمنون هو إعلاء لقيمة الفعلان لما تعنيهما من عرفان بعظمة الله وإقرار بأن الله هو من يغفر الذنوب وحده وهو الغفور الرحيم الذي له الصراط المستقيم وأنه الخالق القدير الذي له إحكام الميزان في خلقة وملكه ومخلوقاته منذ بداية الأشياء حتى نهايتها زمنيا ومكانيا و على الدوام.
وأترككم في رعاية الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تقويم التقويم الهجرى

الشروق و الغروب و تصحيح المواقيت

ادم